إنهم يقتلون الصحافة المهنية

بقلم: جمال السطيفي

في زمن غير بعيد، كان المشهد الصحفي في المغرب أكثر تنوعا وحيوية، يشكل سلطة رابعة حقيقية، قادرة على تحريك المياه الراكدة وإثارة قضايا تهز الرأي العام.
كان للصحافة الاستقصائية مكانتها، وكان الإعلاميون يحظون بالمصداقية والاحترام، وسط مشهد إعلامي يسعى لأن يوازن بين المسؤولية والحرية..
ورغم بعض الانزلاقات والانحرافات، والانزياح مع حماس البدايات نحو الخلط بين العمل الصحفي والتموقع السياسي، ظل التأثير قويا، وبقيت هيبة الصحافة حاضرة بقوة، باعتبارها أداة مساءلة ورقابة..
أما اليوم، فالصورة تغيرت، الإعلام المهني يختنق، بينما يزدهر إعلام الإثارة والتفاهة.
يكفي أن تكون صاخبا، مثيرا للجدل، أو حتى مفبركا للأخبار، لتحجز لنفسك موقعا في صدارة المشهد.
السؤال الذي يفرض نفسه: من المستفيد من هذا الوضع؟ ومن يقف وراء قتل الصحافة الجادة لصالح الرداءة الإعلامية التي صارت تحظى بدعم لا ينقطع..
الإعلام ليس ترفا، ولا هو مجرد تكديس للأخبار في أعمدة الجرائد والمواقع الإلكترونية أو نشرات التلفزيون، بل هو عين المجتمع، ومرآة عاكسة..
في غياب الصحافة المهنية، تتسيد الفوضى، وتنتعش الإشاعة، ويصبح كل شيء ممكنا حيث لا فرق بين الخبر الزائف والخبر الصحيح، ولا بين المصدر المهني والمصدر العشوائي.
في السابق، كان المواطن يبحث عن جريدة أو قناة موثوقة لمعرفة الأخبار، أما اليوم، فإن أي شخص يحمل هاتفا متصلا بالأنترنت يمكنه أن يصبح مصدرا للمعلومة، حتى لو كانت مزيفة.
وهنا تكمن الخطورة، لأن من يقتلون الصحافة المهنية، هم أنفسهم الذين يفتحون الباب للإشاعة، فغياب الإعلام الجاد لا يعني اختفاء الأخبار، بل يعني فقط أن الأخبار الحقيقية ستُدفن، وستُستبدل بأخبار مفبركة تصنع على المقاس.
سؤال من المستفيد من قتل الصحافة المهنية ليس مجرد ترف فكري، بل هو جوهر المعركة، ذلك أن هناك من يستفيد من هذا الوضع:
أول المستفيدين هم اللوبيات الفاسدة ممن يتواجدون في العديد من المواقع ويعتبرون أن الصحافة الحقيقية هي عدوهم الأول، ولذلك يفضلون أن تموت ببطء، حتى يبقى المشهد الإعلامي خاليا من أي مساءلة حقيقية.
ولعل ذلك ما يفسر أن هناك جهات تُفضل أن يكون الإعلام في يدها، أو على الأقل أن يكون ضعيفا وغير قادر على التحرك بحرية.
ولهذا، فإن أي وسيلة إعلامية جادة وبسقف معقول وجرئ قد تجد نفسها محاصرة، بينما المنصات الهامشية التي تروج للسطحية والإشاعة تجد كل الأبواب مفتوحة أمامها.
هذا الوضع يحوّل الإعلام إلى مجرد أداة طيعة، تكتب تحت الطلب، وتصفّق تحت الطلب، وتسكت تحت الطلب. ومن يخرج عن الصف، فإنه يواجه المقصلة..

في ظل هذا الفراغ، انتقلت المعركة إلى الخارج، وأصبح يوتيوبرز مقيمون في دول أخرى هم الذين يحددون النقاش العام في المغرب، رغم أنهم يفتقرون لأدنى المعايير الصحفية.

هؤلاء وجدوا في المنصات الرقمية فرصة ذهبية، واستغلوا تعطش الجمهور لمصادر بديلة، ليقدموا نسخة مشوهة من الإعلام، قائمة على الإثارة، والشائعات، والسب، والقذف، دون أي التزام بأخلاقيات المهنة.

لكن، هل اللوم يقع عليهم؟ أم على من صنع الفراغ الذي سمح لهم بالصعود؟

في الواقع، هؤلاء مجرد نتيجة لواقع إعلامي مختل، حيث تم تدمير الصحافة المهنية، مما فتح المجال أمام إعلام بديل لا يحترم القواعد، لكنه قادر على فرض نفسه، لأنه ببساطة لا يجد من ينافسه من الصحافة التقليدية التي تم تهميشها أو محاربتها.

إذا استمر هذا الوضع، فإن الأمور ستصل إلى مرحلة لا رجعة فيها، حيث لن يكون هناك أي مصدر موثوق للمعلومة، وسيصبح الرأي العام مرهونا بأشخاص لا علاقة لهم بالصحافة، لكنهم قادرون على التأثير أكثر من أي جريدة أو قناة رسمية.

Related posts

Leave a Comment