-الثقافة التزام-

الكاتب ناصر السوسي

ليست الثقافة ترفا فكريا أو تزجية للوقت.
ليست الثقافة ديكورا للزينة أو فولكلورا احتفاليا.
الثقافة من تَقُف، وتَقِف. أي قوَّم، ووجِّه، وسوَّى وهذَّب.
الثقافة هي المضاف الاجتماعي.
ما يميز الثقافة اساسا هو محاولتها العبور بالكائن البشري من حالته الأصلية -الطبيعية إلى حالة الاجتماع الإنساني. إلى حالة القاعدة LA RÈGLE التي هي حالة النظم، والقوانين، والمؤسسات والعقل.
الثقافة وعي بالذات. وعي بالمحيط. ووعي بالعالم على اعتبار أن الوعي هو ما يجعل الإنسان إنسانا.
الثقافة التزام أساسا لأنها تقذف بالإنسان في أتون السؤال الاستفهامي هدفا إلى المعرفة الحقة المجافية للعزو IMPUTATION الخرافي. فأن ألتزم معناه أن أنخرط في هم العالم. أن أنصت لنداء الوجود وأتحسس نبض الغير .
أن ألتزم معناه أن قضايا غيري هي قضاياي. ومصير العالم مصيري مادمت أنا العالم .
أنا التاريخ.
أنا الإنسان.
وأنا غيري.
أولست أنا -الإنسان مركز العالم ومحوره؟
الإنسان العادي يحس ولايفكر لأن التفكير يفترض فعلا قفزة حيوية L’ÉLAN VITAL أو تلك الارتماءة خارج الذات وهو ما يقتضي الفحص، والتمحيص والعجن باستمرار. وأحسب أن الأمر هنا نظير لفن العوم. إذ لايمكننا أن نستعذب السباحة في اليم دون القفز في لجته. التفكير هو الفعل الذي بمكنته انتشالنا من مشاغل الوجود المبتذل، ومن البداهات، وبادئ الرأي، ومن الترهات، والسخافات والتفاهات لنتجه رأسا إلى ما هو أساسي؛ وماهو صميمي.
ذلك أن الصميمي، فيما أقدر، هو أنشودة الوجود لا الموجود الذي استحوذ على تاريخ الميتافيزيقا الغربية منذ اللحظة الأفلاطونية التي حجبت عنا صوت الوجود وأنستنا إياه..
فعل الارتماء فعل مخالف تماما للتمثل. ومخالف للاستنباط الديكارتي وإبيستيمولوجيا المباشرة، وللاعقلية الحدسية الذوقية كما للإشراق الصوفي.
ليس بمقدور كل الناس تحقيق فعل القفز صوب الوجود، اي نحو التفكير الحق لأنهم قاصرون عن انتشال ذواتهم من اليوماني، والعادة، والمعتاد، ومن منطق الحتمية والقدرية التي تعزي عوارض العمران إلى أسباب متعالية عن أحوال البشر والتاريخ. غير مستطاع لهم معانقة نداء الوجود، والإصغاء لصوته الذي لن يتقنه غير المفكر، والشاعر، والفنان …فهؤلاء وحدهم من يتميزون بالفطنة، والنباهة واليقظة لإدراك نبض العالم.
مرة أخرى أقول ليست الثقافة بهرجة، او مضيعة للجهد. ليست الثقافة مهرجانات، أو مواسم، او احتفالات او طقوسا مسخرية..
المهرجانات والجوائز لاو لن تصنع بالمطلق مثقفا حقيقيا. تلك هي حكمة الراحل الأديب صاحب «الخبز الحافي» و« مجنون الورد» محمد شكري. المهرجانات لم تصنع يوما شهرزاد المغربية فاطمة المرنيسي، أو غابرييل غارسيا ماركيز، أو إدوارد سعيد، أو هشام شرابي، او ادونيس، أو إدريس الشرايبي، أو محمد زفزاف، أو نجيب محفوظ، أو كارلوس فوينتيس، أو يوسف إدريس، أو عبدالرحمن منيف او نيكوس كازانتزاكيس..
كتب المستعرب الياباني المعاصر ” نوبوأكي نوتوهارا “في “العرب بعيون يابانية” بأن ترجماته لكتابات، وإبداعات غسان كنفاني الذي قضى غيلة كانت النافذة التي مكنت اليابانيين من الاهتمام بالقضية الفلسطينية؛ وتفهم حقيقة ووضع شعب أخرج كرها من دياره فترك يعاني التشرد في اراضي الشتات بدون وجه حق. أما قبل ذلك فقد كان الصهاينة يروجون لأطروحاتهم المقيتة وسط المجتمع الياباني عبر الكتب التي تصدر إلى العالم الياباني مما يؤكد ، في ما أرى، الوظيفة الإيديولوجية للفعل الثقافي في صياغة الأفكار، وتوجيه الرأي العام من جهة، ويشدد من جهة ثانية على الوظيفة الانقلابية للإبداع الثقافي بشتى أشكاله، وأضرابه على التنميط، والستاتيكية، والتقليد والاتباع..
الثقافة رؤية.
الثقافة حرقة، واهتمام والتزام..
الثقافة معاناة رائعة، وشوق يومي جميل..
اقراوا …
اقرأوا …
و ابدعوا ..
فليست الثقافة ترفا..
ليس الأدب تزجية للوقت..
ليس الفن هدرا للزمن..
ليس التفلسف انحرافا، وكفرا وزندقة..
ليست لغة الجسد تهتكا..
كما ليس التوكل سبحة
ومرقعة..
فقد اوصى الفيلسوف العربي الدكتور عبدالرحمن بدوي قبيل رحيله، من على كرسيه المتحرك؛ اوصى الشباب العربي بقوله:
اقرأوا.
اقرأوا.
ثم اقرأوا….

Related posts

Leave a Comment