“
الدكتور محمد بشاري
امين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
ابوظبي الإمارات العربية المتحدة
في القاهرة، ذات مساء مصري دافئ من ربيع 2019، وعلى ضفاف النيل المتهادي، اجتمعنا للمرة الأولى – وربما للأخيرة – حول مائدة غداء في مطعم إسكوريال، الذي يشرف بنوافذه الزجاجية على النهر كمن يتوضأ بالضوء. المناسبة كانت رياضية: كأس إفريقيا للأمم لكرة القدم، لكن اللقاء لم يكن كروياً صرفًا، بل حمل معه ما لا يُروى في نشرات الأخبار أو البرامج التحليلية. كان لقاءً إنسانياً، تُهيمن عليه الطيبة، والتقدير، وظلال الكبار.
جاء الحاج أحمد فرس، متأنيًا، بوجهٍ هادئ، وصمتٍ مطمئن، وابتسامةٍ لا تفارقه. لم يكن كثير الكلام، لكنه إذا ابتسم شعرت أن المكان كلّه يلين. إلى جانبه كان يجلس الإعلامي المقتدر سي عبدالعزيز بلبودالي، صديق العمر، والصوت الذي يقرأ في سيرة الحاج من دون أن يفتح كتابًا. الفنان سامح الصريطي، نجم الدراما المصري و”الأهلاوي” القلب، رتّب هذا اللقاء بنفسه، وجعل منه لحظة شرف وتقدير للأسطورة المغربيّة، إلى جانب النجم الجماهيري الكبير عزيز بودربالة، الذي كان يومها في أوج حضوره الإنساني، ونجما الإعلام المصري اشرف محمود وأيمن بدرة، يبادل الصريطي نِقاشًا كرويًا لا يخلو من المداعبة، ولا يخلو من دفء.
أنا كنت في الزاوية… بلا سابقة عشق للكرة، وبلا خريطة للنجوم والنوادي، شعرت حينها كما يُقال “كالأطرش في الزفّة”، أتابع الحديث كأنني أتعلم لغةً جديدة. لكن كان يكفيني أن أرى. أن أُبصر الجلسة لا بصريًا فحسب، بل وجدانيًا. كل ما فيها كان بسيطًا، عميقًا، حميميًا.
ظلّ الحاج أحمد فرس قليل الكلام. يراقب الحوار المتدفق بين سامح الصريطي وبودربالة وعبدالعزيز، ينصت، يبتسم، يرفع حاجبيه أحيانًا كمن يتأمل أطراف الحديث، وكأنه يعيد تشكيل المعنى بصمته. كانت نظرته هادئة ولكنها تخترق، تسأل دون أن تنطق، وتُجيب دون أن ترفع صوتًا.
مرت الساعات، ثم تفرّق الجمع، وبقيت في ذهني تلك الابتسامة. قلت في نفسي بعد اللقاء: كم هو نادر هذا النوع من الناس الذين لا يحتاجون إلى الأضواء كي يكونوا شموسًا، ولا إلى الصراخ كي يُسمَعوا. شخص مثل الحاج فرس، يُدرّس في أدب الحضور، وتواضع الأساطير، وحياء القوة.
ثم جاءت الأيام، وجاء هذا الشهر. ورحل الحاج أحمد فرس.
حين قرأت خبر وفاته شعرت بأن لقاء القاهرة، ذلك الذي تمّ قبل ست سنوات، لم يكن مجرد صدفة عابرة. بل كان مشهدًا خُتمت به صفحة اللقاء الأرضي. كأن القدر أراد أن يجمعنا به مرة، لنعرف أن الصمت فن، وأن التواضع بطولة، وأن الأسطورة يمكن أن يجلس إلى جوارك على طاولة، دون أن يتحدث عن نفسه مرة واحدة.
اليوم، وأنا أستعيد ذلك اللقاء، أشعر بشيء يشبه الحزن، لكن ليس الحزن الذي ينوح، بل الذي يوقّر. كأن الحاج فرس ما زال يبتسم، بزاوية هادئة في المطعم، يراقب النقاش، ويمعن النظر في الحياة.
وهكذا، لم يكن لقاؤنا به مجرّد غداء تكريمي بمناسبة رياضية، بل كان لحظة وداع مبكر لم نفهمها يومها. كان القابُس الأول والأخير، لحظة نادرة التقت فيها أرواحنا، وانفصلت في صمت، لتبقى الذكرى شاهدة.
سلامٌ على أحمد فرس، في رحلته الأبدية، وسلامٌ على كل لحظة صمت شاركنا بها، وكانت أبلغ من كل الكلمات.
أنا لله و أنا اليه راجعون
