هيام سلوم
سنبحر قليلاً في عالم الموسيقا هذا النغم الجميل.
سأبدأ من طفولتي وأسأل عن أول موسيقا سمعتها صوت جدتي، تلك التهويمة التي كانت تلفني كالحرير الدافئ على المرجوحة الخشبية؟ كنت اغفو والدنيا كلها أمان. كأن صوتها كان سورا يحيط بي من كل مخاوف الظلام. كان أول موسيقى سمعتها… ولم أدرك أنها كانت درساً في فلسفة الجمال: ان الفن الحقيقي لا يصنع بالالات الغالية، بل بالحنان الخالص.”
لطالما تساءلت: لماذا يهدا الطفل الباكي عند سماع نغمة؟ لماذا ترتاح النفس المكدودة عند سماع لحن؟ الجواب يكمن في ان الموسيقى هي اللغة الاولى للكون. لغة سابقة على الكلام. اول موسيقى هي نبضات قلب الجنين في رحم امه. هو الايقاع الاول الذي يصاحبه حتى النهاية. ثم موسيقى خرير الماء، وحفيف الاشجار، وهديل الحمام، وزقزقة العصافير. نحن نعيش داخل سمفونية كونية عظيمة، ولكن اذاننا تعودت على الضجيج فانسينا الاصغاء..
موسيقى الاشجار صوت أغصانها عندما تلامسها الريح.
العالم: سيمفونية حية. فنحن “موسيقى تمشي على قدمين”. كل حركة منا لها ايقاع، كل نبضة لها نغمة، كل نفس له مسافة موسيقية. ولكننا نكبر، وننسى. نضع سدادات في آذان قلوبنا كي لا نسمع صوت الوحدة، او صوت الحزن. فتأتي الموسيقى المصنوعة، موسيقى البشر، لتذكرنا بلغتنا الاصلية.
لا عجب ان قدماء المصريين واليونان عرفوا العلاج بالموسيقى.
انها تذيب الجدران العاطفية التي نبنيها حول قلوبنا خوفا من الاصابة. كأن اللحن يمر كالنسمة في شقوق ذلك الجدار، فيبدأ بالتداعي.
كم مرة جلست الى موسيقى عزفها عود شجية، فانهمرت دموعك دون سبب منطقي؟ تلك الدموع هي تنظيف لرواسب الذكريات المؤلمة. هي دموع لم تسقط بعد، فرح لم يولد بعد، حزن لم يعترف به بعد.
الموسيقى تعيد التوازن للطاقة الداخلية المضطربة. تجعل من الفوضى العاطفية لحنا يمكن فهمه، او على الاقل، تحمله.
في مجتمعنا العربي، تقف الموسيقى امام محكمة غريبة.
فبينما نترنم بآيات القرآن الكريم باعلى الاصوات واجمل الالحان، ونعتبر ترتيله فنا ساميا، نسمع من يصف الموسيقى الاخرى “بلهو الحديث” و “مكاء و تصدية”. ها هو الصراع بين المقدس والدنيوي، بين الروحي والجسدي، بين المباح والمحظور. ولكن، الا يحمل لنا تراثنا قصصا عن دف النبي صلى الله عليه وسلم في الاعياد، وغناء الجاريتين في بيته؟ الا يروى ان سيدنا داوود عليه السلام كانت له تسابيح تسبح الجبال معه؟ الم يكن ذلك اعترافا ضمنيا بان الصوت الجميل، والنغم المؤثر، هو هبة من الله، وطريق من طرق التعبير عن الشكر والحب والجمال؟
الفن عموما، والموسيقى خصوصا، هو احد اوجه ذلك الجمال الالهي المودع في الكون. انه وسيلة لايصال المشاعر التي تعجز الكلمات عن حملها. حين يعجز اللسان عن شكر النعمة، يأتي اللحن شاكرا. حين يعجز اللسان عن وصف الالم، يأتي اللحن نائحا. الموسيقى هي دموع العين عندما تجف منابع الكلام.
اذن، ليست الموسيقى مجرد تسلية. انها عودة الى المنبع. الى ذلك الوقت الذي كنا فيه جزءا من السمفونية الكونية، قبل ان تفصلنا عنها اوهان الدنيا ومصاعبها. انها غذاء ضروري للروح، كالماء للجسد. فاذا جفت منبع الموسيقى في القلب، صار القلب صحراء قاحلة، حتى لو امتلأ بالمال والعلم والجاه. لان الروح تموت عطشى للجمال.
