في مساء من أواخر القرن الماضي، وبينما كانت رياح التغيير تعصف بالمنطقة، وجدت نفسي في قلب بغداد، رفقة شباب أوروبيين يحملون شعلة الأمل والسلام، رافضين لغة السلاح، مؤمنين بأن الحوار وحده قادر على تجنيب الشعوب ويلات الحروب.
وسط ذلك المشهد المتوتر، ظهر اسم محمد بن عيسى، وزير الخارجية المغربي آنذاك، كضوء في العتمة. لم يكن مجرد مسؤول يتابع الأحداث من برجه العاجي، بل كان رجلاً يحمل قلباً نابضاً بالإنسانية، يدرك أن السياسة ليست فقط حسابات مجردة، بل التزام أخلاقي تجاه من يبحث عن العدل والسلام. لم أكن أعرفه شخصياً حينها، لكن اهتمامه بوضعنا، وتواصله عبر سفير المغرب في بغداد، جعلني أدرك أنني أمام رجل مختلف، رجل يضع الإنسان قبل كل اعتبار.
لم يكن ذلك اللقاء العابر سوى بداية لعلاقة امتدت عبر السنوات، علاقة قامت على الحوار والثقة والمشروع الثقافي المشترك. دعاني إلى أصيلة، تلك المدينة التي لم تكن مجرد مسقط رأسه، بل كانت حلمه الذي ناضل ليجعله واقعاً. عندما زرتها لأول مرة في الثمانينيات، وجدتها بلدة هادئة متكئة على المحيط، بشوارع ضيقة وأزقة تحمل رائحة البحر، لكنها كانت تحمل في جوهرها شيئاً استثنائياً.
تحت رؤية بن عيسى، تحولت أصيلة إلى فضاء ثقافي عالمي، حيث تتداخل الفنون مع الفكر، والموسيقى مع السياسة، والشعر مع النقاشات الحادة حول مصير العالم العربي. في كل زاوية منها، بصمة فنان، في كل شارع، صدى لحوار لم ينتهِ، وفي كل موسم ثقافي، لقاءات تجمع الساسة بالمثقفين، لتطرح الأسئلة التي لا تجرؤ المنابر الرسمية على طرحها.
كان محمد بن عيسى أكثر من مجرد دبلوماسي، كان محاوراً بالفطرة، رجلاً لا يبحث عن الإجماع، بقدر ما يسعى إلى توسيع دوائر النقاش. لم يكن يخشى الخلاف، بل كان يرى فيه ضرورة لتطوير الفكر. في أصيلة، وجدت نفسي مراراً أمام جمهور متعطش للنقاش، أتحدث عن تحديات الهوية، عن المسلمين في أوروبا، عن الأزمات السياسية التي تعصف بالمنطقة. كان يجلس في الصفوف الأمامية، ينصت بعناية، ثم يقترب بعد كل جلسة، يضع يده على كتفي، ويقول لي بنبرة الواثق: «أنت صوت في زمن الصمت، لا تتوقف».
حين تصاعدت التوترات في القدس، اتصل بي طالباً تحليلاً حول مستقبل الإسلام السياسي بعد اغتيال قياداته التاريخية. لم يكن مجرد طلب بحثي، بل كان إيماناً بأن الفهم العميق للواقع هو الخطوة الأولى لصناعة التغيير. عند وصولي إلى أصيلة، استقبلني كما يفعل دائماً، بابتسامته الهادئة، بعينيه اللتين تحملان حكايات لا تحصى، وكأنه يهيئني لخوض نقاش جديد، لجولة أخرى في معركة الأفكار التي لم يتعب يوماً من خوضها.
عندما رحل، لم يخسر المغرب رجل دولة فحسب، بل فقد أحد مهندسي الحوار الثقافي، أحد الذين آمنوا بأن الثقافة ليست ترفاً، بل سلاحاً في مواجهة الانغلاق. برحيله، بكت أصيلة، بكت جدرانها التي حملت ألوان الحالمين، بكى البحر الذي كان يستمع إلى تأملاته الطويلة، وبكينا جميعاً من عرفوه، ليس فقط لأنه كان صديقاً، بل لأنه كان رجلاً من زمن نادر، حيث الفكر لا ينفصل عن الفعل، وحيث الدبلوماسية لم تكن مجرد مفاوضات، بل جسور تبنى بين الشعوب والعقول.
بقلم الدكتور محمد بشاري : أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
عن مركز الاتحاد للأخبار