دينامية وزخم ملحوظ في فعاليات الدورة ٢٦ لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، كما لو أن المخرجة هالة جلال رئيسة المهرجان أرادت أن تضع كل أحلامها في دورة تليق بقيمة المهرجان وكذا برغبتها في تطويره، وهو التطوير الذي لا يلغي جهد السابقين من رؤساء المهرجان، كما صرحت هالة جلال بنفسها، الأمر الذي يشبه إلى حد ما توجه بعض المخرجين حين يصنعون فيلمهم الأول ، فيضعون فيه كل القواعد الفنية التي يقتنعون بضروريتها، هذا ليس عيبا بالتأكيد وليس مبالغة مني في تقدير الأمر، إنما ملحوظة تتجلى للجميع، وترسخ مفهوماً وثقافة واشتغالاً ودعماً ووعياً معرفياً لمهرجان لا يغربل القديم، بل يحاول أن يصنع إضافة له، و يبلور صُوَر جديدة وتجديدية له، في فعاليات وأفلامٍ متنوعة، وتفعيل لحوار ونقاش، بعضه جزء من تقليد سابق يتمثّل بندوات تطرح مسائل سينمائية وتناقشها.
باستثناء كتالوج المهرجان الذي صدر في عدة أجزاء، تتضمن مسابقاته المتعددة، أفلاما ومبرمجين، فإن المطبوعات تختفي من هذه الدورة، على غير عادة المهرجان، ربما يتعلق الأمر بضيق الوقت أو بعدم وجود رئيسا للمركز القومي المنظم للمهرجان، يعني ثمة غياب مؤسساتي،أو لأزمة اقتصادية مستترة أو معلنة لا تفرق. لعل هذا أفضل من صدور كتب باهتة كما في مهرجانات أخرى.
المهم أن ما حدث هو خروج آمن إلى النور لمهرجان معني فعليا بالسينما تحتضنه مدينة تاريخية في زمن صعب، ساعيا لدعم الأفلام والمشاريع الجديدةمعنوياً وماديا بدرجة ما، مكتفية الجديدة، وهذا حسنٌ وضروري، وإن كان يحتاج إلى الزيادة في الدورات اللاحقة ، إضافة إلى ترويج أكثر للأفلام في إطار الاختصاصٍ أو النوع الذي يقام من أجله المهرجان وهو السينما التسجيلية والروائية القصيرة. دون أن نتغافل عن تطوير صالة العرض في قصر الثقافة والدعوة إلى إنشاء صالات جديدة موازية وحديثة لعرض الأفلام بصورة تليق بالفعل السينمائي، سواء أثناء المهرجان أو خارجه،
فلا يُعقل تنظيم مهرجان سينمائي في مدينة تفتقد صالات سينمائية مناسبة، هذا من أبجديات ومقومات الصناعة .
إذن فإن زخم الفعاليات وحده لا يكفي، ولا يترك بمفرده أثرا إيجابيا، هذا لا يعني أن نبخس الجهد الذي قامت به المخرجة هالة جلال وفريقها، في اختيار الأفلام وتمكّنها من عقد ندوات ولقاءات و”ماستركلاس”، ما أتاح للمهتمين والمتابعين من الاستفادة الثقافية ومهنية وتأمّلية بأحوال السينما وأساليب الاشتغال فيها.من الموضوعات المهمة التي تم إثارتها : السينما التسجيلية وحفظ الذاكرة” في التي أدارها الندوة الكاتب الصحفي محمد شعير، بمشاركة د. هدى الصدة من مؤسسات المرأة والذاكرة، ود. مروة الصحن، والتي تصاعدت من فكرة توثيق الأماكن، إلى قضية غياب الأرشيف، والحاجة إلى اهتمام مؤسسي كبير يتضح فيه دور الدولة والمركز القومي للسينما، بخلاف مراجعة كل القوانين التي تخص السينما في مصر، وضرورة تدخل الدولة لإنقاذ السينما، وإثارة موضوع السينماتيك، وصولا إلى توصيات بإنشاء سينماتيك كما حلم به السابقون مثل الناقد الكبير سمير فريد والمخرج محمد كامل القليوبي، بتلويح ما بأنه لم يحدث ذلك فسوف تغرق السينما، وأن الجهود الفردية المستمرة حتى الآن بأفراد مثل دكتور مجدي عبد الرحمن، هي جهود مقدرة، لكنها لا تغني عن دور الدولة
كما ننادي بعودة أثارنا، وأن هذا الأمر لا يقل أهمية عن من الخارج، فإن السينما ليست أقل أثارنا .كذلك كان هناك هذا الموضوع شديد الأهمية: “الأفلام بعيدًا عن نشرات الأخبار”، تمت مناقشته في الندوة التي أدارها الكاتب الصحفي والناقد الفني زين العابدين خيري، بمشاركة الإعلامية الفلسطينية عندليب عدوان، والمخرجة اللبنانية إيليان الراهب، ومن خلالها تم طرح
أهمية الأفلام التسجيلية ودورها في تقديم الأحداث الإنسانية بعيدًا عن التغطيات الإخبارية السريعة، وهو ما يبيلنا بطريقة أو أخرى إلى فكرة التوثيق وكيف يمكن أن نصنع أفلاماً وثائقية تعكس تفتحاً معرفياً ووعياً جمالياً ودرامياً بمكونات الفيلم الوثائقي، وتذهب في مواجهة التحديات المختلفة، حين تغرف من الواقع مواد إنسانية لمعاينة التحول وتأثيراته في المستقبل، من خلال أعمال وقصص مأخوذة من صلب المجتمع، وشخصيات وموضوعات منتقاة من الذاكرة الفردية والجماعية، أو من اللحظة الآنية لفهم آثار الماضي، وتداعيات المقبل من الأيام، بأساليب تجديدية تحرر النص البصري من بهتان التبسيط والتقليد.. على أية حال مازال المهرجان مستمرا، والأفلام تعرض والمناقشات دائرة، بما يصنع حالة من حالات التفاعل والتأمل والرغبة الحقيقية فيما هو أجمل وأكثر إفادة لصناعة السينما والحفاظ على الذاكرة الإنسانية.
في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة.. من الذاكرة إلى الأرشيف إلى جماليات الصناعة .. تلك هي القضية ( مصر): ناهد صلاح
