– السوفسطائي- (محكيات)

●-ناصر السوسي

بين عرفوه، ومنذ صباه، اشتهرب”ولد هيشار”، وهذا اللقب أمسى به لصيقا كجلده بالنظر إلى طيشه ونَزَقِه، وبالنظر أيضا إلى صعلكته وحوشية الألفاظ التي يتواصل بها باستمرار.
لم تكن لي به، في الحقيقة، أية صلة او رابط ما لا من قريب ولا من بعيد. وأذكر أنني التقيته أول مرة في إطار اجتماع قيل لي آنئذ أننا سنتداول على مداره مستجدات تقنية ترتهن بالديداكتيكا، وصِنَافَات “بلوم” التي تجاوزتها الاجتهادات، والتطورات التي شهدها السيكوبيداغوجيا منذ منتصف خمسينات القرن المنصرم لارتكازها على المدرسة السلوكية وإسهامات “ثورندايك” على وجه الخصوص.
وسط المدعويين كنت أتجاذب، وزميلة باحثة أطراف الحديث حول مدى تقدمها في إنجاز اطروحتها الجامعية التي تعدها في الفلسفة الغربية المعاصرة حول”إشكالية الحقيقة عند مارتن هايدغر” ليلج”ولد هيشار” القاعة وكان قابسا عجلانا.
استوى”ولد هيشار” على كرسي خشبي. كانت أنفاسه تعلو وتنخفض كمَسْلُولٍ. التَفَتَ يُمْنَةً ويُسْرَةً ثم شرع في تنظيف أسنانه المهترئة من بقايا الطعام بواسطة عود”بوشنيخة”. وفيما بين ذلك انهمك بإدخال خنصر يده اليسرى المُتَرَعِ بالأَوْسَاخِ داخل إحدى أذنيه. يُحْتَمَل جدا ان الرجل هب للتو من سرير نومه إلى قاعة الاجتماع وآية ذلك انه بين الفينة والأخرى كان يعمد، وبطريقة آلية، إلى مسح مخاط خياشيمه بكم سترته، وفرك بقايا عمش عينيه اللتين تلفهما غِلاَلة بنية قاتمة من اكتئاب بَيِّنٍ وَجَلي.
ظللتُ أتفرسُ قَذَالَ هذا الكائن الغريب فاستحضرتُ بَيْتَيْ ابن الرومي:
قَصُرَتْ أَخَادِعُه وَغَارَ قَذَالُه :::: فكأنه مُتَرَبِّصٌ أَنْ يُصُفَعَا
وكأنما صُفٍعَتْ قَفَاهُ مَرَّةً :::: وأَحَسَّ ثَانِيَةً لَهَا فَتَجَمَّعَا
واستمررتُ في اسْتِغْوَارِ دقائق، وتفاصيل وجهه المستدير لتطفو على سطح حافظتي”يمليخا “إحدى شخوص مسرحية توفيق الحكيم في”أهل الكهف”. أخرج”ولد هيشار”من علبة عود ثقاب عَقِب سيجارة “كازا سبور”، وبعنجهية زائدة وضعه في زاوية فمه اليسرى وأشعلها بتؤدة. كانت أصابع يديه ترتعشان بصورة لافتة وهو يمسك بلفافته. أخذ نفسا عميقا من عقب السيجارة فتولاَّهُ شرود عميق وهو يتأمل سقف القاعة. عند ذاك أيقنت أن الرجل منفصل عمن عما حوله بل لربما منقطع عن العالم كلية.
فوراء الأكمة ماوراءها.
نهض كمأخوذ على حين غرة بقامته القصيرة. ضرب المنضدة بقبضة يده فصاح مطالبا تمكينه من كرسي جلدي وثير يريد به الإصرار على أنه الشخص-الضرورة، والمحاضر المفوه الذي على الحضور طاعة أوامره، والامتثال لطلباته، والانصياع لكلامه!!!
بحث، وكان منتصبا بهيئته القزمية، بكلتا يديه في كل جيوب سترته البالية للحظات. امتقع لون وجهه متقمصا نظرات شخصية مهمة، وسرعان ما عثر على مجموعة من الأوراق المضغوطة رمى بها بعجرفة فوق منضدته. قرأ ما قرأ منها أشياء فارغة من الفحوى والمحتوى. بل تهجى بعض ما دَوَّنَ طَيَّهَا حول ابن مسرة، وابن ميمون، وابن باجة، وابن رشد، وابن طفيل، وابن سينا، والسجستاني، وابي بشر متى بن يونس، وابن النفيس. كان على الملإ ينشر جهله مادام يتكلم فيما ليس له به أي علم. ولما التبست الأمور عليه وادلهمت عمد إلى افتعال حَنْحَنَات كمسلول لتنتفخ أوداجه، ويحمر وجهه لتفتر فتحة فيه عن ابتسامة ممتقعة كشفت عن أسنان أتلفها السوس وخربها دخان اعقاب السجاير والإدمان اليومي على فناجين”نيسكافي”. وفي حديثه المفكك وغير المترابط عرج على ابن تيمية و”فتاواه التاريخية” ليقارنه بابن الراوندي. ثم عقد مقارنة لاتستقيم إلا في مخيلته المهلهلة بين ابن ميمون، وابن سبعين وليتناول سيرة أبي حامد الغزالي الذي اعتبر شكه في”المنقذ من الضلال”” أجود وأبلغ”!!!!! من شك رائد الحداثة الفيلسوف روني ديكارت “الإفرنجي اليسوعي” ولتجنح به أفكاره المنفلتة من خيط عقدها إلى القول إنه أول طالب مغربي تتلمذ للأستاذ برينو إيتيان الذي أسعفه على فهم عميق لتاريخ الفكر السياسي المعاصر. وليزيد مزهوا أنه بصدد إنجاز مشروع ترجمي باهر وما على وزارة الثقافة، وهيئات الناشرين سوى الانتباه إلى أعماله..
ظللت أتابع هلوسات هذا الذي:
تزيا بلبس العالمين وليسهم. :::: وفي فمه علم وفي الرأسِ خواءُ
يجادل في ما لايحيط بفهمه. :::: كأن اليقين افتراض وهباءُ
إذا سُئِلَ ارتاب، وإن قيل له اتئدّ. :::: أجاب بعجبٍ، كل شيء ادعاءُ
قدر لي أن أستمع له مكرها. لكن بعدما تبين لي انه ماض، لا محالة، نحو تحويل الفضاء إلى لغو المقاهي قررت الانصراف. وهكذا غادرت الفضاء تاركا خلفي”ولد هيشار” ينفثُ خَبْلَه،، ودخان أعقاب سجايره بين الحضور ووسط القاعة وأنا أردد مع الإمام الشافعي:
وكل داء له دواء يستطاب به :::: إلا الحماقة أعيت من يداويها

(●- ناصر السوسي)

Related posts

Leave a Comment