– النشرة الجوية – (محكيات)

( ناصر السوسي )

لم أكن أعلم أن جارا جديدا اكترى البيت الذي يقابل شقتي.كان هذا منذ عقود خلت ومضت. ولم أكن اعلم أيضا ان هذا الجار الجديد الكهل عازب. كنت مرحلتئذ شابا، و كنت وحيدا، عازبا مثله.. اذكر أني كنت أحمل بانتظام محفظة كتفية متوسطة الحجم صنعت من جلد ثور متى عن لي التوجه إلى ” مؤسسة آل سعود بالدارالبيضاء ، او عقدت العزم على الذهاب إلى” الخزانة العامة ” بالرباط لاستزادة تحصيلي المعرفيد وحرصا على تأهيلي العلمي الجامعي. كنت كلما هممت بمغادرة بيتي ألمح جاري الجديد في رحلة ذهابيابية خلال أوقات معلومة إلى المسجد القريب من “الدرب “. يرتدي دائما ” فوقية ” لونها أزرق قاتم بكمين قصيرين كبائعي زيت العود الذين يجوبون الأزقة .كما كنت ألمحه و هو يداعب سبحة طويلة بنية اللون أو يحدق بعينين تفيضان بطبقات رسوبية من شهوة ليبيدية هائلة، وطاقة إيروسية مكبوته تفضحه متى لمح وجوه النسوة المتبضعات. تنفتح أساريره، و يتورد خداه من دفق الرغبة لما تبتسم له بنات الجيران الكواعب المراهقات ..أو حينما يكون في صحبة بعض الشيوخ المتقاعدين الذين تعرف إليهم بسرعة قرب باب مرآب مهجور يمارسون أمام ساحته الضيقة لعبة “الضامة “؛ او يتصايحون أثناء انهزام أحدهم في “التريس ” او ” التوتي”، أو انتصار غيره في شي “طرح” “الروندة “.
و مع أن سنه تجاوز الأربعين سنة فإن هذا العمر لم يهذبه بشكل جيد .كما لايبدو أنه تعلم شيئا من مدرسة الحياة .كان خفيفا كالريح، مثل صبي جموح. مهتزا لما يخونه المراهق المكبوت الذي يستوطنه. نزقا كزئبق محرار. تعرف على كل الجيران تقريبا فطفق يحضر بعض حفلات الختان، أو الزواج أو الجنازات بمعية ” الطلبة ” لتلاوة القرآن الكريم على من توفى دون أن يكون حافظا لآية واحدة من ” ستين حزب ” ..
علم عبر اسلوب بوذينة، و فضوله اللامحدود أنني مدرس مثله فخاطبني يوما وأنا أهم بركوب دراجتي الهوائية باتجاه شاطئ المركز ” أهلا سي” لوستاذ” “ياودي راني ولد الحرفة بحالك”، ثم قدم لي نفسه بوصفه مدرس مادة “ليجتماعيات !!!!!” …” طفق يزورني ببيتي من حين لآخر . حقيقة، كنت أستمتع بأحاديثه، و نكثه، وقصصه اللي ك ” تعقل “على “عناق بن عواج ” إذ كان، لي، “يرويها بالواضح لا بالمرموز، ولطالما تلذذت بنبرته الحوشية المدهشة، الخِلْوة قطعا من كل تكليف إلى حد أنها كانت تذكرني ب “حلقات خليفة “بسوق “شطيبة”، أو بحكايات “الطويل والقصير ” ب ” باب الشعبة ” بمدينتي الملونة. و لما اقتنيت جهاز تلفاز بالألوان يعمل بنظام ” بال- سيكام “صار يزورني بانتظام في كل الأماسي تقريبا لمتابعة أخبار الثامنة مساء على قناة ” إ.ت.م ” الوحيدة في تلك الآونة . كان مفتونا بالأخبار التي يقدمها الإعلاميان المغربيان المرحوم سي “محمد المؤذن” و السيدة “قمر أيت بنمالك” ذكرها الله بكل خير..
و مع مرور الأيام صار يصطحب معه سيدة قرينته في العمر . كانت هذه السيدة وقورا تماما. غاية في الأناقة. لبقة وفي منتهى الرزانة بالرغم من أنها لم ترتد في حياتها مدرسة لتعلم القراءة والكتابة. والغريب أنه كان يصر على أن ترافقه صديقته هاته إلى بيتي لمتابعة الأخبار و مشاهدة ” النشرة الجوية ” التي كان يقدمها مهندس مغربي مختص في الأرصاد وعلم المناخ..
كان جاري المدرس هذا يقطع صوت المهندس ذي اللكنة الشمالية الجذابة بواسطة جهاز التحكم عن بعد الذي كان يجد متعة كبيرة في الإمساك به حيث يقطع عنا صوت صاحب النشرة الجوية بخنصره الذي يزينه خاتم اهل التشيع فيبقي على الصورة لوحدها ليتصنع جدية مبالغا فيها، وتعالما بينا في فك رموز الخريطة الجوية الملتقطة بواسطة الميتيو- ساط. كان يتصنع التعالم والأستاذية أمام الشاشة الصغيرة . كنت أتابع تقاسيم وجهه و مخارج الحروف من فمه كما أتابع عن كثب حركات يديه حين يمسك مسطرة طويلة بيده اليسرى فيتصنع صرامة زائدة ليقول مفسرا، وموضحا، و صديقته منشدة بشكل غريب إلى ماينفث فينا:
“لاحظوا معايا عافاكم دابا. هنا كيف كاتشوفو في هاذ الخريطة الجوية غادا تكون رياح شمالية -شرقية قوية إلى جنوبية – غربية باردة إلى شديدة البرودة..كنحذركم . ردوا بالكم راه كاين شي إضطراب جوي قوي في طريقه إلى السواحل المغربية قادم من جزر الآصور بسبب الضغط الجوي المنخفض الذي يسود عندنا منذ أيام ..وسيتكون على إثره جليد في السهول والهضاب الداخلية العليا يعني ” الجريحة “و بسبب تاثير الرياح القطبية الآتية من سيبيريا تحديدا عبر أروبا الغربية. غير الله يحضر السلامة وخلاص ..أما في النجود العليا كما أقرا في الخريطة فستسقط الثلوج خصوصا في المرتفعات التي يزيد علوها عن 1500 و 2000 متر.. لكن سفوح الجبال ستكون عرضة للبرد يعني التبروري . والبحر سيكون هائجا إلى قليل الهيجان وارتفاع الموج سيصل إلى حدود مترين إلى ثلاثة أمتار .أما سرعة التيارات البحرية فستكون ما بين 10 و 15 بوفور وما فوق ..”
كان هذا الصديق -الأستاذ متأكدا من شروحه المسهبة للخرائط الجوية، و للمناخ و الطقس لذلك فقبل أن يخرج مغادرا بيتي كان ينصحني بتوخي الحذر من خطورة الانزلاق لما أمتطي دراجتي الهوائية لأن الأمطار ستكون غزيرة ..
و أذكر يوما سألته عن طرق وكيفيات قياس التساقطات المطرية .لم يجبني الرجل بل سارع إلى طلب ” سطل ” فارغ وضعه في سطح البيت و أمرني حازما بعدم الاقتراب منه إلى أن يأتي هو شخصيا لينظر في الأمر . و في مساء اليوم الموالي بعد شرح ضَافٍ ومستفيض، كعادته ، للخريطة الجوية لحقنا، انا وصديقته، به إلى السطح لمعاينة طريقته في قياس الأمطار؛ ولأجل ذلك طلب من صديقته مده ب “ميترو ” أودعه لديها قبل زيارتهما المعتادة. وعمد ب ” الميترو” إلى قياس ارتفاع الماء داخل السطل. كنت أتتبع حركاته عن كثب إلى أن التفت إلي واثقا مما يصنع. استدار نحونا ففاه بمايلي ” : ” ها نتوما بارك الله فيكم كيف كتشوفو مزيان دابا. طاحت اليوم بالسلامة..بالسلامة والعافية ، من خيرات ربي نعام آسيدي شي 13 ملم والصرف ديال الما . رفع هامته نحو السماء، وتأمل عميقا حلكة الليل فزاد كَمُهَسْتَرٍ :”تانشوف بلي الشتا غادا ” تسبع “والعام غااااااادي يكون مزيان و مليح بزااااف عاد … الصبا هاذ العام غادي تكون مزيانة إن شاء الله ….
التفت إلى صديقته بنظرة ميسولينية متعالية شبيهة بنظرات الأخ العقيد إلى مستجوبيه فصاح : راه صديقك لوستاذ هذا ألالة “م ” مازال ماتاتعرفيهش مزيان. راني عااااااالم من علماء الكاااااااااااارتوغرافيا وأجرك على الله …. “

Related posts

Leave a Comment