ناصر السوسي
كزهر الرُمَّان وجهها مُتورِّدا كان. نظراتها وهي تُصَوِّبُ نحوي طلق عينين حوراوين تثغثغان بمسحة من شرود العشاق. للحظات ظلت الحوراء على حالها تلفحني بِلَمْعٍ كَوَمضِ سِحْرٍ اسرني ثم هزت قشعريرته أحشائي وجوارحي على نحو غريب. تذكرت وأنا أسرح في لمع عينيها قريضا للشاعر “بشار بن برد” المقتول:
حَوْرَاءُ إِنْ نَظَرتْ إليكَ
سَقتْكَ بالعينين خَمْرَا
وَكَأَنَّها بَرْدُ الشَّرَابِ
صَفَا وَوَافَقَ فيه قَطْرَا
وَكَأنَّ تَحْت لسانها
هَارُوت يَنْفُثُ سِحْرَا.
طفقت أتفرس في بحر عينيها. زَمَّتْ شفتيها في شهوة عارمة بعد أن عاجلتني ذاتُ الحُسْن ك “حفار قبور” “عواصف” “جبران خليل جبران” باستفهام:
هات مافي جعبتك أنت أيها الغريب !!!.
احك لي مشهدا من ماضي حياتك!!
لبرهة تَوَجَّسْتُ من مَطَبِّ السؤال وفخاخه ؛ وكي لاأثير حفيظة جنيتي الساحرة مسحت ببصري صفحة السماء المرصعة بمصابيح الغسق؛ فقد وَلّی مِنَ الليْلِ صَرِيمٌ دون أن يَهلَّ لُجَيْن بَدْرِالعُشَّاقِ بَعْدُ.
هل اتكلم؟ هل أحكي؟ وبأية طريقة؟ بل كيف لي أن أنتقي شطيرة من تشققات ذاكرتي الصدئة، المهترئة، أو راسبا أحسب أنه تَكَلَّس من عوادي الدهر، وتخثر في حيز مظلم من عقلي الباطن؛ وفي غفلة مني أنا المتسكع بين منعرجات وانعطافات زمن كسيح، مسيخ؟…
أمام هاته الأفكار المَوَّارَة تعَثَرْتُ كَتَائِهٍ في بَرْزَخِ الخِضَم. وَلَمَّا كُنْتُ أقَدِّمُ رِجْلاً وَأؤَخِّرُ اخْرَی كمقبل على موقعة “فخ” جديدة طَفَتْ على مساحة وَعْيِي بَارِقَةُ نَسِيبٍ للشاعر “أبي حكيمة الكوفي” صاحب” ديوان الأيريات”:
أحادر إن واصلته أن يُصِيبُنِي
وإياه سهم للفراق مُصيبُ
أداري جليسي بالتجلد في الهوى
ولي حين أخلو زَفْرة ونَحِيبُ
وأخبر بالذي لاَ أُحِبُّه
فيضحك سني والفُؤَادُ كَئِيبُ
وإن خضوع النفس في طلب الهوى
لأَمرٍ إِذَا فكرتَ فيه عَجِيبُ.
خَمَّنتُ..قَدَّرْتُ..فَتَرَدَّدْتُ.. وبين هذا الفعل وذاك استسلمت لشجن أخذني على حين غرة وأنا أفتش في متاهات، وانكسارات ذاتي المُستوحدة رغما عني، وأقلب تسللات لاوعيي، وحبائل عقلي الدفين المُثْخَن بسواد البعاد، وجمر المنفى، وغياهب الكوابيس في عِزِّ الدَّياجير لتستمر دهشتي التي تتمخض عن ثناياها أوجاع المعنى بحثا عن سِرٍّ او فهم ممكن لقلق الوجود..
قلت: أنا محترف الغربة. وذاكرتي منخورة، لامستقر لها على البرية. خَرِبَة كطلل أتت عليه الرطوبة. ورؤيتي كأعشى مشوشة. لذلك أضحت أفكاري أمشاج أوهام أتوق لتلقفها فتتبخر كسراب هَجِيرٍ في انتصاف صيف. أعيد الكرة ثانية لكن محاولتي ترتطم بثقوب حافظتي لتتكسر. هكذا أمسيت شاردا في صفاء عينين كحبتي لوز كان بريقهما يشع مثل الماء الزلال في عالم الثبات والخلود…
– قَلْعَة المَنْفَى-
