كتاب الحياة: “رحلة الحروف بين الصمت والصرخة”

هيام سلوم

الحياة كتاب مفتوح، لكنه لا يُقرأ بسهولة. كل صفحة تحمل ألغازًا وخفايا، وكل سطر يختزن تجربة، وكل كلمة تستنهض وعيًا جديدًا. بين الصفحات البيضاء والسوداء، يكمن درس الذات، ويبدأ الإنسان رحلة إدراكه لذاته وللعالم من حوله.

مع كل قراءة في كتاب الحياة، أكتشف جهلي وضعفي وغربتي. أجد نفسي أتحرك في دروب ليست لي، أكتب سطورًا لا تمثلني، وأسير في مسارات غريبة عن حقيقتي، فأتعثر بين ما أعرف وما لا أعرف، وأعود لأدرك أن الحياة تعلمنا، على نحو قاسٍ، أن إدراك الذات رحلة بلا نهايات.

عندما أفتح كتاب الحياة لأدوّن على دفاتر الأيام، أكتشف الأسرار المستورة، وأجد الأوراق البيضاء ترمقني بعينين شاحبتين من الحزن على أقلام ضاعت، على حروف لم تُكمل، على كلمات لم تُقرأ، وعلى أحلام اختُطفت قبل أن ترى النور. هذه الأوراق البيضاء تنطوي على ذاتها، تتكور خجلاً من بياضها الذي صار تهمة، بينما الأوراق السوداء المتقنة الحبر تتباهى بوجودها، تحظى بالاهتمام والتقدير، يُتسابق إليها وتُفسح لها الساحات، وكأن اللون الأسود وحده القادر على إحداث الفارق، في حين أن البياض، مهما نقاه، يُدان ويُهمل ويُترك للنسيان.

في كتاب الحياة غرائب وعجائب، صفحات تحمل صورًا مشوهة لوجوه لئيمة وأفعال عقيمة. هناك ضوء يختبئ في كهوفها، وهناك شمس تشرق على عقول صافية تبحث عن الحقيقة وسط الرماد. في صفحات الحياة، أدمنت بعض النفوس الزنا والفواحش، قتلت الكلام، عطلت الأقلام، وتجاهلت كل جميل وجليل؛ معارك لا تنتهي بين الحيّ والميت الروحي.

كلما كتبت في دفتر الذكريات، بكيت دماً وحروفًا وقصائد لأولئك الذين يحملون الحب والأمل والحياة في قلوبهم رغم كل العوائق، لأن شقاؤهم ينبع من صدقهم وصفائهم وشفافيتهم وإنسانيتهم. أليس من العجب أن يكون الإنسان الحقيقي شقيًا لأنه صادق، بينما المزيف، المصطنع، يعيش سعيدًا لأنه زائف؟! أليس هذا وحده كافيًا ليعرف العاقل حقيقة الحياة دون الحاجة لفتح صفحات الموت؟

المزيفون، المحدودون، الصغار غالبًا ما يكونون سعداء، بينما الأقوياء، الصادقون، الصافي القلوب، يتحملون عبء الوعي، عبء الإدراك، عبء الحقيقة. لقد علا الزور على الحق، وشرب الناس ملحًا أجاجًا من شفاههم، وبصقوا في مياه الفرات العذبة، سبّوا الكبير، وأهانوا الصغير. الخراب استباح القيم، ونشر القبح، وملأ الدنيا بدناءة وسخافة. تلوث كل شيء، واختلطت الأسماء والمعاني والدلالات، وأصبح كل شيء مشبوهاً، وكل حقيقة قابلة للطعن.

هذه لعنات الحياة المثقلة بالانحدارات والجراحات، جراح تهدد بانفطار الكتاب ذاته تحت ثقلها، وتدفع الأوراق إلى التمزق، فتختفي الحدود بين الصواب والخطأ، بين الحقيقة والوهم، بين النقاء والفساد.

كلما فتحت كتاب الحياة، شعرت بأنني أفتح كتاب الموت بألوانه الكاملة، وأعذب نفسي بيدي، أكتب فصل شقائي، وأعلن عصياني على أبجدية صمّاء أمام الأنقياء والشرفاء في هذا العالم، أبجدية لا تسمع، لا تُقرأ، ولا تعرف الرحمة. كل يوم، كل صفحة، كل حرف هو صرخة في وادٍ سحيق من الغربة الروحية، حيث تنكشف الحقيقة على شكل ألم ووجع، ولكنها الحقيقة التي لا غنى عنها، لأنها وحدها تترك أثرها في القلب، وتربط الإنسان بذاته وبالوجود كله، مهما بدا العالم مظلمًا وخائبًا ومخادعًا.

كتاب الحياة ليس مجرد صفحات تُقلب، بل تجربة تُعاش. في البياض والأسود، في الألم والفرح، نتعلم أن الحقيقة ليست سهلة، وأن إدراك الذات رحلة مستمرة بلا نهاية. وربما، في النهاية، يكمن السر في قدرتنا على مواجهة الصفحات الفارغة والمليئة بالحبر، لنجد أنفسنا، ولو للحظة، في حضرة معنى الحياة.

Related posts

Leave a Comment