-●- ناصر السوسي
قبل أن يستسلم الزبون لشلال أفكاره الهادر وهو متمددعلى أريكة ” سيغموند فرويد”سأله المعالج النفساني بهدوء تام:
-بماذا تشعر سيدي؟
-الزبون: لست أعرف كيف أصف لك معضلتي، ومعاناتي مع أفكار قهرية أضحت تتملكني كلية وتطبق على ذهني وكياني. لذلك فكل ما في وسعي قوله يتلخص في أنه بدأ ينتابني اقتناع لاقبل لي به، ومنذ أسابيع ليست بالقليلة، مؤداه أنني بدأت أتحول من جنس الإنس إلى فصيلة النسانيس !!!
المعالج: عفوا..عفوا..ماذا؟
الزبون: أقول لك، سيدي، صرت أشعر أنني قد مسخت مسخا عجيبا. مسخا غريبا. وصرت متيقنا تام أنني تحولتُ من إنسان إلى حيوان.. تحولتُ إلى قرد، كيما أكون واضحا، وصريحا معك!!!!
المعالج: أقلت قردا؟
الزبون: بالتحديد.. قرد بالتحديد..
وزاد الزبون مدققا في توصيف تفاصيل حالته ودقائقها: في البيت ابحث عن الموز فلا أجده. وأفتش عن الفول السوداني دون جدوى. وعندما أغادر مأواي أتسكع بلا هدف بيِّن؛ فارتاد الساحات العمومية من غير أن اعثر على قَرَّادٍ يلاعبني فأتسلى.. فقد تشكلت لدي ميولات هائلة للعب لم أعهدها فيَ في سابق الأيام. كما تنتابني حالات تحملني، رغما عني، على النط، وتدفعني إلى القفز برشاقة وبخفة لاقدرة لي على مقاومتها؛ وهي حالة لم أعشها عندما كنت أنتمي لمجتمع الآدميين.. أكثر من هذا صرت ميَّالا إلى العيش بين الأدغال، شغوفا بتسلق أغصان الشجر، محبا لركوب المغامرات وسط الغابات. وصرت أيضا أعثر على سكينتي وعزائي وسط أسراب القردة، أصيح واصرخ كما يحلو لي، وافلي فروتي من البق والطفيليات تحت اشعة شموس الصباحات.
المعالج: هل تشاهد برامج عالم الحيوانات على شاشات بعض القنوات الفضائية؟
الزبون:أبدا. أبدا. وبالمطلق سيدي.. فعندما كنت أنتمي إلى عالم البشر دأبتُ على ارتياد المكتبات التي آلت في غفلة منا إلى مقاهٍ تعج بالخلق، ومحلات تستقبل أكلة النقانق والبوكاديوس. كنت أتابع بشغف، على الفضائيات الجادة، أخبار المعمور برا وبحرا. وأستمتع بمشاهدة المسرح، والأشرطة السينمائية، وأستفيد من مختلف البرامج الثقافية والفنية. كنت أيضا أشنف أذني بروائع الموسيقى العالمية قبل الخلود إلى قيلولتي أو الاستغراق في نوم الليل، وأتملى بمشاهد من رقص البالي، كما كنت أستمتع بالإنصات لروائع الشعر العالمي ينشد صداحا في الصالونات، والمقاهي الأدبية خلال بعض اللقاءات والأمسيات الفنية. واليوم انقلب كل شيء رأسا على عقب منذ أن ادمنت متابعة دجل الكلام. وخرط لغو تجار ومهربي الدين، وابتليت بمتابعة منافسات الليغا، ومشاهدة “خوليتا” وروزاليندا” و”خلود”و”سيتكومات القرية والدوار”، وسيناريوهات وحوارات من قبيل:” كنت في الشركة وقال ليا الحاج لمفضل!!!!. وقلت للحاج لمفضل في الشركة!!!…. الحاج الرغوة في التلفون. والتلفون في الحاج الرغوة!!!!” و”مسرحيات” “خلي بالك من مدام”، والتقط اخبار الحروب، والقتل، والدمار والخراب هنا وهناك. وأطرب لملاسنات بعض أشباه الفنانين والفنانات فيما بينهم لأسباب واهية، وأسهر الليالي مع شعبذة العرافات والمنجمين بحثا عن اخبار ابراج الدلو، والأسد، والحوت، والعقرب، والميزان وهلم جعرا !!!!!!!!…. وأصدق أقوال مقتنصي الفرص، وتجار الوهم الذين يعالجون خلق الله بالرقية الشارعية، وفذلكات “الهاشمي” !!!!!! سمسار السراب والمحلل النفسي، والجسدي، والعضلي، ..وأثق ثقة عمياء في ترهات “المكي”، وخرافات خبير التغذية والأمراض الذي يشدد على معالجة جميع الأمراض المستعصية بتناول الخرشوف البري، وشرب دم الثعالب، وشَيِّ الضب، وشرب ماء الخابية على الريق..
– المعالج: سيدي.. أنت تعاني من عُصاب المسخ ، ومركب نفسي استوطن ذهنك فحولك عبر سيرورة تطورية معكوسة من إنسان مكتمل الإنسانية، والآدمية إلى كائن تَقَرَّد تَقَرُّداً تدريجيا، ثم “تَقَرْدَنَ” بشكل منهجي، ومنتظم فصرتَ كما ترى وتفضلتَ قردا “زعطوطا”بالتمام والكمال..
