●- ناصر السوسي
في أواخر عقد سبعينات القرن الماضي كانت السيدة فاطمة التواتي؛ الإعلامية بالتلفزة العمومية، تقدم برنامجا ثقافيا عرف آنذاك ب: “كمبيوتر 7″؛ وهو البرنامج الذي دأبت خلاله على استضافة فعاليات من مختلف المشارب، مسرحية، وفنية، وفكرية مغربية وأجنبية أيضا..
واذكر، وبصفاء ذهن تام، أنها ذات حلقة مميزة استضافت معدة البرنامج المعلم الفيلسوف محمد عزيز الحبابي رحمة الله عليه وقد كان
لحظتئذ مقبلا على إجراء عملية جراحية. تحدث الأستاذ محمد عزيز الحبابي من مكتبتة ب”دار الندوة”، بيته في مدينة تمارة، عن الفلسفة بوصفها فكرا نقديا مناهضا للدوكساDOXA، ومخلخلا للوثوقية، ومؤزما للتقليد بكل تجلياته وبمختلف أضرابه. وفي مجرى كلامه تطرق الأستاذ محمد عزيز الحبابي إلى التيار الفلسفي الشخصاني PERSONNALISME الذي لطالما نافح عنه منذ كتاباته الأولى في أواسط عقد الخمسينات من القرن الفائت، كما تحدث أيضا عن الشخصانية الإسلامية منزعه الفلسفي الذي مزج فيه شخصانية كل من CHARLES RENOUVIER و EMMANUEL MOUNIER، وليستكمل مشروعه حول الإنسان في علاقته بمسألة الحرية، وقضايا التفتح، والكرامة وحوار الحضارات، فضلا عن مستقبل الإنسان العربي، والمتوسطي والإسلامي في عالم يطبعه التحول وذلك بين ثنايا مصنفه الفكري حول الغدوية LE DEMANISME الذي كان بصدد وضع اللمسات الأخيرة عليه ألا وهو، LE MONDE DE DEMAIN, LE TIERS-MONDE ACCUSE “عالم الغد، العالم الثالث يتهم”.
تحدث محمد عزيز الحبابي على مدار ذاك الحوار المثير، بالإضافة إلى الفلسفة، عن مواضيع مختلفة، عن التأليف الموسيقى الراقي بشقيه الغربي والعربي فشمل حديثه الشيق الإبداعات السمفونية الكبرى التي خلدها كبار الموسيقيين أمثال بيتهوفن، وباخ، وشوبان، وتشايكوفسكي، وشوبير، وبرامز، وموزار،.. وتحدث عن أقطاب الموسيقى العربية: محمد عبد الوهاب، والسيدة ام كلثوم، والفنانة المغربية عزيزة جلال التي خصها بنقد صميمي حول المنحى الفني المشرقي، المصري تحديدا، الذي آثرته. تطرق أيضا للجماليات، وتَوَلُّهَهُ بالفن الرفيع الرامي إلى تحرير الجسم من أثقال التقليد ورسف التمثلات، وتفجير أحاسيس الإنسان، للسمو بالذوق والوجدان، والتنشئة على الجماليات: الشكيل، والإبداع الأدبي الذي الذي برع فيه محمد عزيز الحبابي نظما وسردا بلغة الجاحظ ولغة موليير MOLIÈRE على السواء.
فمن مِنْ رعيلي الذين تتلمذوا له لايذكر “إكسير الحياة”،و”جيل الظمإ”، و”العض على الحديد”، و”دفاتر من الشرق”،و”يتيم الروح”؟
حينما كان المعلم الفيلسوف محمد عزيز الحبابي يتحدث عن عظمة الفلسفة، ووظيفتها في المجتمعات الإنسانية ادرجت السيدة فاطمة التواتي موقفا التقطته كاميرا من على رصيف شارع ما بمدينة الرباط أجابت فيه سيدة من اهل الكدح البسطاء؛ وكانت برفقة أطفالها الصغار عن سؤال:”هل تقبلين ان يدرس أولادك الفلسفة؟”
فبكل تلقائية ردت السيدة:”لا أقبل ان يدرس أبنائي الفلسفة، ولا اقبل أيضا ان يكونوا فلاسفة!!!
وحينما سئلت عن أسباب ذلك قالت: “لأنني اريدهم ان يسوقوا الطْيَايْرْ (=طيارون)، أو ان يصيروا أطباء، أو صيادلة، او مهندسين. أما الفلسفة فما فهي” غيرخضرة فوق طعام!!”.
أصغى المعلم الفيلسوف محمد عزيز الحبابي لقول تلك السيدة فرد بنباهة الحكماء: “أنا أتفق جملة وتفصيلا مع ماجاء في كلام هاته السيدة لأنها برأيي صادقة في قولها إن الفلسفة “غير خضرة فوق طعام” مادام أن الطْعَامْ أي الكسكس لا يكون شهيا إلا بوجود “خضرة فوقه”. إن الخضرة هي مايجعل بالفعل الكسكس طعاما شهيا ولذيذا..”
الفلسفة انشغال فكري، وهَمُّ معرفي بامتياز لايخوض فيه إلا من رغب في البحث عن معنى ممكن للعالم الذي يعيش في خضمه. وهذا البحث لايستقيم إلا بالتساؤل الإشكالي الذي يكون مهمازه التعجب كيقظة معرفية، ومحركه الدهشة كحيوية ذهنية مفجرة لشغف نزع الغرابة عن كل مايحف بنا ويستفزنا.
لذلك، فالركون إلى اطمئنان العادة يحول دون تجرؤ العوام على الخوض في قضايا العقل، ويعوق البحث في سببيات الظواهر، والاستمتاع بالإبداع، ومناولة الفنون والأداب؟
رحم الله معلمنا الفيلسوف محمد عزيز الحبابي..
( ناصر السوسي)
