ناصر السوسي
انتظرت زائرا على مدار ليلة الأمس. لم أبرح حيزي قط. لبثت أنتظر، وأنتظر الآتي …
في عز ليل حسبته سديما في خلوتي الإرادية كنت كلما سمعت خطوا خلته أسعد فأقول: هو بالذات، ها قد أتى أخيرا. وحين يتوارى الخطو ألوذ إلى صمتي. إلى استشباحاتي أصنع منها صورا وخيالات تخفف عني بعض اهتزازاتي، وتلطف تيهي وشيئا من توتراتي..
انتظرت فطال انتظاري إلى أن داهمني لغوب أضناني..
جفون عيني تلتصقان ببعضها البعض رغما عني. أقاوم اجتياح كرًى على غير الدأب…
أعددت كوبا به خليط من عشب اللويزة والسعتر، وبضع عيدان من نبت اليَزِير. تذكرت أن تلك الخلطة كانت عادة عمتي بعيد كل وجبة عشاء ضمانا لنوم عميق.
بين تقديم رجل وتأخير أخرى، تلقائيا اهتدت يدي الى فتح كتاب رتب على رفِّ السرديات الأدبية على مقربة من أريكتي، ملاذي وحاضنتي كل يوم: ” بول بولز و عزلة طنجة”..لست أدري علة ذلك..كنت قد قرأت الكتاب منذ سنوات خلت وها أنا تحت تأثير ما أعود الى قراءته في ليلة عصفت فيها صرصر عاتية تلاها وابل غيث غزير يسقي البلاد والعباد ..
ألم يصرح “كلود ليفي-ستروس” في ثمانينات القرن الماضي طيَّ استجواب معه ان القراء حَالَمَا يشيخون ينجدبون بقوة إلى البيوغرافيات والأوتوبيوغرافيات؟
ألم يقل الناقد عبد الفتاح كليطو ضمن المساق نفسه، مرة، إنه مع تقدم الكتاب في العمر ينكفئون إلى قراءة الأعمال التي سبق لهم قراءتها؟
قد تكون لي في كتاب”بول بولز وعزلة طنجة” ضالة بعينها وأنا أحسني شاردا على غير دَيْدَنِي. طريدا كتلك النخلة السامقة التي استقدمت إلى الأندلس بأمر خاص من عبد الرحمان الداخل-صقر قريش- ذاك الذي فر من الشام ناجيا بجلده من فظاعات بني العباس، شاهدهم، بلا رحمة، ينحرون كالشاة أخاه في مشهد يشيب له الولدان وهو يعبر النهر وخادمه “بدر”صوب اللامكان، ونحو المجهول..
عزلة بول بولز PAUL BOWLES وسط طنجة كما التيه البوهيمي لصاحب”يوميات اللص JOURNAL DU VOLEUR” او LE CAPTIF AMOUREUX جان جونيه JEAN GENET ..
هل أماثل احدهما في شيء؟ هل أشبهه في النوى؟ في شجن البعاد؟
يحتمل ذلك. لكن أين هو اليعقوبي؟ أين جين بولز ؟ أين محمد المرابط؟ عبد الوهاب ؟ ورحمة ؟وفتحية؟ أين الروبيو؟ اين رواة طنجة الذين كتب عنهم حسن بحراوي؟ وماذا عن “محماد العصفور ” محمد خير الدين؟؟؟؟
بمهل أقلب الصفحات.. أنتظر زائري.. زائرا هيوليا..هلاميا على مايبدو لي..قد يطرق الباب طارق على حين غرة.. قبل أن يتعالى صوت مؤذن الفجر..رفعت بَيْرقاً أبيض مهزوما، مدحورا فاستسلمت وحيدا لتثاقلات الكرى.. ولحاضرتي الملونة تتراءى لي صورا مكسورة مرة أخرى في اوج وهني ..اضطجعت على سريري. الغرفة الشاحبة، تماما، رغم لون الفيروز تلف حولي كخدروف في أقصى دورانه. ماهذا أيها القدر العنيد؟. ألملم جوارحي المبعثرة على مضض، أو ماتبقى من أوصالي المفككة رغما عني. أتماسك بإصرار فأترنح من الدوار العنيف.. ما هذا؟..كنت كمن عبأ بطنه بوما بكامله بنبيذ رخيص فاختل توازنه كلية..
لبول بولز عزلة طنجة، وليَ ليلُ مدينةٍ بالأمس كانت بساتين زهر وياسمين، وحدائق فُلٍّ ورياحين..أحسني أمتلك وحدي ليل حاضرة الجوري والأقحوان، ليل كان يسنمني كل أصيل على جيادٍ مجنحة…أحسه ليلي أنا. ليلي أنا لوحدي دون سواي.
كم اعشقك ياسدول الغسق البوهيمي وإن في وحشتي ولهيب اشتياقي!!!!
لبول بولز شلته. ولي شلتي التي تؤثت مكاني: إبراهيم الراعي الملاك الوديع الحاضر رغم الغياب الأبدي بين الحجارة والأقحوان،
بين الدفلى والريحان..
لم يفد زائري و لا أطل بطيفه..وحينما استفقت على إيقاع مدينتي كانت أذناي تلتقطان من نافذة الشرفة: “ها البصلة البيضا”” ها البطاطا” “ها العنب” “ها النعناع ” “ها البيض”!!!!!!
ارتشفت قهوتي في شرفة مأواي فتذكرت تحولات طنجة التي لاحظها بول بولز PAUL BOWLES في “يوميات طنجة ” DAYS: A TANGIER DIARY …..
