صَدْمَةُ اللِّقَاء مَعَ الحَجَّاج بْنُ يُوسُف!!- (محكيات)


-●- ناصر السوسي

كنت صغيرا، وعودي كان طريا مثل أقراني التلاميذ في بداية عقد الستينات من القرن الماضي. لم أكن أحفظ سورا من القرآن الكريم لأستظهرها أمام معلمي كباقي الأطفال داخل الفصل الدراسي بطلاقة الأطفال الذين مروا من المسيد. كان معلمي هذا من العُرَفَاء الذين ألحقوا، بالصدفة، بحقل التربية والتعليم بعيد سنة الاستقلال يعاملني بسادية مفرطة لم أفهمها إذ ذاك بحيث كان يتفنن في كل صباح باكر، في الاعتداء علي بالضرب المبرح صعب علي تحمله، لذلك كنت أبكي بحرقة شديدة، وعذابي الذي كنتُ اكابده رغما عني كان يُبْكي بعض رفاقي الأطفال داخل القسم. أذكر أنني عشت تجربة نفسية بالغة القسوة، ومحنة جسمية مريرة. فتارة كان معلمي/العريف يصفعني بعنف. وطورا ينهال على أطراف أصابع يدي بالضرب بعصا من عود العرعار لتتكسر أظافري؛ وثالثة يتفنن بجلدي دون رحمة بسوط مفتول شاهدت شبيهه لدى سائقي عربات النظافة التي كانت تخرج تباعا باكرا من البوابة الكبرى ل”الفوريان” المتاخم لمدرستي. وإن كنت قد نسيتُ فلم أنس بتاتا انه أصلاني عذابا أليما ب”الفلقة”ذات صباح قارس بمساعدة تلميذين قويين نادى عليهما من وسط ساحة المدرسة حيث كانا يتجولان.. كانت ضربات عصا الخيزران تنهال على اخمصي قدمي متتاليةُ دون توقف؛ وأنا معلق بين السماء والأرض أسلخ حيا. كان معلمي/العريف يعذبني فيمعن في السخرية مني بتقليد صراخ بكائي، وطلبي للنجدة أمام التلاميذ الذين أرعبهتم مأساتي في عز قر الفصل المطير. وحين كبرتُ بدا لي انني كنت ابا منصور الحلاج الصغير في مدرستي الأولى. مَسَحَ الحلاج، وهو مصلوب، دمه بما تبقى من جزء يده التي بترتها سادية الجلاد تماما كما وصف ذلك كل LOUIS MASSIGNON وLOUIS GARDET؛ ومسَحْتُ دم رعافي الممزوج بمخاط خياشيمي المتناثر على ثيابي ووجهي بكمي سترتي الممزقة. لم أكن افهم سر تمادي، وتلذذ مدرسي في تعذيبي وانا طفل صغير ولجتُ المدرسة بشغف رغبة في تعلم مبادئ القراءة والكتابة؛ بتلك الطريقة المغرقة في الوحشية والهمجية وفي فصل كان من صقيعه ينفق حوت بحر”المريسى القديمة”بمدينتي الملونة. لم يكن يعلم معلمي/العريف السادي انني في تلك المرحلة المبكرة كنت مُفَرْنَسَ اللسان بحكم تاثيرات محيطي الاجتماعي، وجراء تواصلي، وتحركي اليومي وسط جيراننا الإسبان، واليهود، والفرنسيين والبرتغاليين والإيطاليين. كنت وبعد أسبوعين فقط من التحاقي بالمدرسة عاجزا عن فك شفرات الخط العربي، فأحرى الخط العثماني أو الكوفي أو المغربي. كما لم يكن معلمي المرعب يدري انني كنت في تلك السنة التي ولجت فيها المدرسة شارد الذهن تماما، لأنني كنت أعود الى بيتنا دون ان أجد من يحضنني، لتتعاظم حيرتي، ويتفاقم حزني وأساي لأن والدتي كانت بين الموت والحياة في المشفى العمومي ولم أكن أجد من يحميني من وجبات فلقة معلمي اليومية غير جاراتنا الراهبات المسيحيات اللواتي كنت أخفي عنهن مأساتي وعذاباتي حين يسألنني عن أحوال الدراسة والمدرسة.
اتساءل وقد انصرمت السنون لماذا كان معلمي يمعن في تعذيبي كل صباح بالفلقة؟ ولماذا كان ينتشي بإذايتي ويَتَهَسْتَرُ بمجرد أن أقف أمامه عاجزا عن استظهار سور من القرآن الكريم؟ لماذا كان فظا شرسا حيال صبية صغار جاءوا إلى المدرسة للتعلم؟؟ لماذا سجنني يوما في خزانة القسم بعد أن اوقفني امام منضدته وأمرني برفع هامتي إلى السقف ليسدد إلي صفعة مركزة على خدي الأيسر UNE GIFLE MAGISTRALE سببت لي صمما دام أسبوعا كاملا، وترتب عليها صداع حاد، ورنح قوي افقدني توازني طيلة اسابيع؟؟؟ ولما أخرجني من سديم”قبوه” كان مثلي كمثل من خرج من مغارة أفلاطون لأنني لم أكن ابصر غير الدواميس، وليعاجلني بضربة خاطفة من مسطرة حديدية على راسي أرتني النجوم تتلألأ وشمس الصباح في كبد السماء. هكذا كان “يَدْرُسُنِي” معلمي الحجاج بن يوسف في القسم لأنني كنت عاجزا عن استظهار آيات بينات التي يعينها لنا مساء كل يوم من قبيل: “والشفع والوتر وليال عشر …الآية” .. و”نون والقلم ومايسطرون…الآية”. حَسِبْتُنِي في تلك اللحظة امام جلاد محترف أوعلى الأصح أمام مجرم في منتهى الهمجية. شَجَّ الحجاج بن يوسف راسي فانهمر دمي شلالا ساخنا على عنقي ليطلي دمي دفتري وادواتي وطاولتي. كنت اتساءل احيانا عن الحكمة من تلك الفظاظة والفظاعة حيال ذلك الطفل المجتهد في كل المواد المقررة إلا في استظهار القرآن. ذلك الطفل الذي كنته وقد أقبل مسرورا على المدرسة لأجل التعلم فصده حَجَّاجُ مدرسته بتصرف موغل في الهمجية.
لقد بدت لي المدرسة، فترئذ، دارا حقيقيا للتعذيب، وبيدرا فعليا لسحق ومحق نفسية الأطفال.
وأذكر يوما، وقد دارت الأيام، أنني سافرت خلال عطلة بينية إلى مدينتي الملونة للترحم على قبري والدي وأخي فحدث لي، وأنا قافل من المقبرة، أن صادفت في مساري حَجَّاجَ مدرستي هذا. صافحته فدعوته لارتشاف فنجان بن”بمقهى آسيف” إكراما له كمعلمي ذات طفولة.. في المقهى هَبَّ يسألني مرتبكا: قل لي: “هل تشتغل عميد شرطة؟ “اجبته: “بل معلم مثلك. معلم للفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس.”وسرعان ما اطلق معلمي عنانه للحديث عن كل شيء ولاشيء. وجدتني وجها لوجه امام إنسان لايختلف في شيء عن النابتة والعوام، وعن الصورة التي تشكلت لدي عنه في مستهل ستينات القرن المنصرم وانا طفل صغير. كان الرجل مهذارا DÉLIRANT. طفقت انصت له دون تبرم. لم اسأله بتاتا عن السر في تسلطه اليومي على أبرياء في عمر الزهور. ولم أسأله لماذا كان يبصق في وجهي متى عجزتُ عن استظهار سور من الذكر الحكيم، او تعريضي للتعذيب المشهود كل صباح ب”الفلقة”، البَلاَءُ الرَّهِيب التي كان يشهره في وجوهنا مزهوا كلما تعثرطفل في المحادثة أو ارتبك اثناء قراءة حرف من حروف الأبجدية العربية. حدستُ في نظرات عينيه الثابتة شرودا غريبا يبعث على الاستفهام. وبدا لي أن اندفاعه للسؤال عن مهنتي يُبين عن شخصية مأزقية تعيش قلقا وحصرا بالوسع ردهما إلى مصائب تراجيدية في مرحلتها الأوديية؛ وما منزع إفْجَاعِ صبية كل يوم بالفلقة المرعبة سوى أسلوب تحويلي-تعويضي عن مرارة معاناتها النفسانية التي استمرت تعشش في جوف طبقات لاوعيها، ولاشعورها الدفين دون ان تجد مسلكا معقولا للوعي بها فالتحرر منها، أو على الأقل، لتليين عنفوانها وتلطيف حدتها.
استحضرت لحظتئذ CESARE LOMBROSO وأنا أَسْتَشِفُّ من نظراته الكابوسية، وقسمات وجهه المرعبة، عُصَابَات عميقة الغور، واختلالا سيكولوجيا أصليا PRIMITIF بتعبير DONALD WINNICOTT يشي بشخصية مفككة، بئيسة ومهدورة، لم يتسن لها تدارك معاطبها التنشيئية، وأنسنة قوى الشر التي تستوطنها. شخصية مقهورة لم تَسْعَ إلى العودة إلى ذاتها لمساءلتها، وصقلها بالقراءة الهادفة للجماليات، والاطلاع المسترسل على مااستجد في عالم النفسانيات، وأضراب الفنون الرفيعة وهو المسؤول الذي أوكلت له مهمة الإشراف على تنشئة وتهذيب براعم وطنه، وتنمية اقتدارهم المعرفي، عِوَضَ إشعارهم بالعَجْزِ والضَّعِة، وتفتيق طاقاتهم غاية في الانتقال بهم من جبلتهم الأولى صوب المضاف الاجتماعي عامة والتشبع بالمثل السامية والقيم المدنية، ولدَرْءِ كل مسلك ذميم يعتبر، والحالة هاته، من تَرَسُّبَات الهمجية واللانظام، ومن بقايا البداوة والجهل المقدس..

Related posts

Leave a Comment