هيام سلوم.. ( كاتبة سورية)
إذا ما تأملنا التشوهات التي حصلت في اللوحة المرسومة عن القارىء العربي.
يستغرب الكثير أن هناك نماذج من البشر ما زالت لصيقة بالكتاب وتقرأ بمعدلات تُعدُّ خرافة في زمن الخرافات العولمية التي عبرت ومزَّقت ستار القيم.
كنتُ على علاقة طيبة مع صديقة شامية منذ طفولتي قارئة نَهِمة، تأخذني بفكرها ووعيها، برغم كل أتعابها وضغوطات الحياة، إلا أنها كانت فجرية النهوض مع أول شهقات ضوء الشمس. تستفتح يومها بما تيسر من تلاوة القرآن بشكل يومي، تستلهم منه عزيمة الروح والانتقاء، فضلاً عن تأملات في سطور سماوية ينبغي ألا تنفك عنها في درب العطاء. تتعمق بقراءتها الثقافية المتنوعة من ملفات الحياة.
تمر ساعاتها محملة كل يوم بما هو جديد ومفيد، كنت أراها ظاهرة نادرة في زمن البلاهة والاستنزاف الوقتي والفكري المليء بالتفاهات، في زمن الاستهلاك ليس المادي فحسب بل العوز والفقر الثقافي والبلادة الفكرية التي تعطلت تحت وقع الأجندات.
وهنا تقع المسؤولية الكبرى على عاتق المفكرين الحقيقيين مع ندرتهم وقلة صلاحياتهم وسلطاتهم المعدومة، لكن واجبهم التذكير وبث الوعي مهما كانت النتائج. فالمفكر أو الفيلسوف أو من يهتم بشؤون الإنسان ويفكر بمصير العالم يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن أمة “اقْرَأ” وخطاب القرآن لم يكن عفويًا أو خياليًا بل كان راسخًا لأمة لن تفلح ما لم تتمسك بالقراءة الأبدية كدليل وعي وخلاص لمستقبل أفضل، إنها خارطة وأيقونة العلم والتعاطي العقلي مع الملفات بعيدًا عن تردي الواقع. وإن وضعت قيود متنوعة على الفكر سياسية وعسكرية واجتماعية وثقافية حتى غدا كل شيء مقيدًا، وأمست الأمة في دوران وتيه عصيّ الخروج من شرنقته.
فلو تذكرنا أيام زمان حينما كانت معارض الكتاب وسوقه تعد بوابة وصورة حقيقية لما بلغه الناس من حب الإطلاع والتعقل والإدراك، حيث كانت المكتبات تعجّ وتضجّ بأمهات الكتب، وننتظرها بفرح عامر. كان بينها وبين الكتاب حواجز بقيت موجودة ولكنها غير ظاهرة. ترى الناس سكارى وما هم بسكارى، هم مقيدون ولكنهم يتنقلون بحرية. هذه القيود الفكرية والاجتماعية انعكست على التفكير وعلى المشاعر، لذلك بدت الناس تائهة كأنها في وادي الضياع تهيمُ.
لقد اتسعت ثقافة الاستهلاك حتى شاعت بين الأسر العربية التي غدت تخصص ميزانياتها على وجبات الشاورما والبيتزا والأندومي والسجائر والأركيلة والمشروبات الكحولية والغازية من رواتبها المثقلة بالالتزامات، لكنها لا تستطيع أن تصرف دولارًا واحدًا على الكتاب.
إن الأسباب التي تقف وراء تدهور الحال العربي ليست مادية، جاءت جراء التيه الذي يعيشه الفرد ويتخبط في محيطه مع كم القيود الحياتية والضغوط المعززة بغياب دور المعلم الأصيل والمفكر الحقيقي، وزيادة نسب الغباء وأساليب التدريس بالإكراه والضغط والتهديد.
كل مواطن أصيل يشعر ويتحسس آمال وآلام الأمة ينبغي عليه أن يسعى لتحفيز وتشجيع حرية التعبير وحرية التفكير والاعتقاد. لنتأمل قليلاً مدارسنا التي غاب فيها دور المعلم الأنموذجي وتأثيره وضميره، وغابت أساسيات التعليم وأهدافه، وتم التركيز على تعليم معلب بائس متكرر لا تطوير فيه ولا أفق.
تحصيل العلامة من دون فهم المعلومة، والتركيز على مادة الدين التي سمَّمت أجيالًا بكاملها.
تخيل أن يكون هناك متدين بالوراثة! إن ذلك إجحاف واضح بحق الأجيال. يجب أن يكون هناك دراسات وقراءات للأديان، ونختار ما نراه مناسبًا دون إكراه على حفظ نصوص مهما كانت منزلة، فتلك تربية أسرية.
فالإنسان طينة صافية نقية على الأرض، علموه أن يكون صالحًا، أن يكون صادقًا مخلصًا، ألا يكون شريرًا غشاشًا، علموه على فعل الخير والمحبة، ليتشرب المعرفة صرفة وهو يختار المناسب له.
عندما سُئل الكاتب الروسي أنطون تشيخوف عن طبيعة المجتمعات الفاشلة، أجاب: “في المجتمعات الفاشلة، يوجد ألف أحمق مقابل كل عقل راجح. تظل الغالبية بلهاء دائمًا، وتغلب العاقل باستمرار. فإذا رأيت الموضوعات التافهة تتصدر النقاشات في أحد المجتمعات، ويتصدر التافهون المشهد، فأنت تتحدث عن مجتمع فاشل جدًا.”
أما الكتاب والمؤلفون، فلا أحد يعرفهم ولا أحد يعطيهم قيمة أو وزنًا، معظم الناس يحبون التفاهة والتخدير، شخص يخدرنا ليغيّب عقولنا عنا، وشخص يضحكنا بالتفاهات، أفضل من شخص يوقظنا للواقع ويؤلمنا بالقول الحق.
للأسف، الأغلبية الجاهلة هي التي ستقرر مصيرك.
