●- ناصر السوسي
لم أكن أعلم أن جارا جديدا اكترى بيتا قبالة شقتي.كان هذا منذ عقود خلت ومضت. ولم أكن اعلم أيضا ان هذا الجار الجديد الكهل عازب. كنتُ مرحلتئذ في اوج شبابي، وكنت أعيش لوحدي، عازبا مثله.. أذكر أني كنت أحمل بانتظام محفظة كتفية متوسطة الحجم صنعت من جلد ثور متى عَنَّ لِي التوجه إلى “مؤسسة آل سعود بالدارالبيضاء، أو عقدت العزم على الذهاب إلى”الخزانة العامة” بالرباط لاستزادة تحصيلي المعرفي حرصا على تأهيلي العلمي الجامعي. كنت كلما هممت بمغادرة شقتي ألمح جاري الجديد في رحلة ذَهَابْيَابِيَة خلال أوقات معلومة إلى المسجد القريب من “الدرب”. كان دائما مقمطا داخل “فوقية” لونها أزرق فاتح بكمين قصيرين كبائعي زيت العود الذين يجوبون ازقة الحارات. كنت ألمحه أحيانا يداعب سبحة طويلة بنية اللون، أو يُحَدِّق بعينين تفيضان بطبقات رسوبية من طاقة ليبيدية غَمِيسَة، وشهوة إيروسية خَبِيئَة تفضح غريزته الدفينة متى تَفَرَّسَ وجوهَ النسوة المتبضعات. يُشْرِقُ محياه، وتنفتح أساريره فيمسد مُتَّئِداً براحة يده اليمنى لحيته الكثة من دفق رغبة جموحة لما تبتسم له، ببراءة، بعض بنات الجيران المراهقات، أو حينما يكون في صحبة بعض الشيوخ المتقاعدين الذين تعرف إليهم بسرعة قرب باب مرآب مهجور يمارسون أمام ساحته الضيقة لعبة “الضامة “؛ او يتصايحون أثناء انهزام أحدهم في”التْرِيس”، أو”التوتي”، أو انتصار غيره في لعبة “الروندة “.
و مع أن سنه زاد عن الأربعين سنة فإن هذا العمر لم يهذبه ليُصَيِّرَهُ رجلا ناضجا. كما لايبدو أنه تعلم شيئا يذكر في مدرسة الحياة. كان كالريح خفيفا، لعوبا، مفرط الحركة كصبي جامح. مهتزا لما يخونه المراهق المقهور الذي يستوطنه. نزقا كزئبق محرار. تعرف على كل الجيران تقريبا فطفق يحضر بعض حفلات الختان، أو الزواج أو الجنازات بمعية “الطُّلْبة” لتلاوة بعض السور من الذكر الحكيم على من توفى دون أن يكون حافظا لآية واحدة من “ستين حزب”..
علم عبر أسلوب بوذينة، وتطفله وفضوله اللامحدود أنني مدرس مثله فخاطبني يوما وأنا أهم بامتطاء دراجتي الهوائية باتجاه شاطئ المركز “أهلا بسِّي”لُوسْتَاذ” “يَاوَدِّي راني ولد الحرفة بحالك”، ثم قدم لي نفسه بوصفه مدرس مادة “لِيجْتِمَاعِيَّات !!!!!”..”طفق يزورني ببيتي بين حين وآخر . حقيقة، كنت أستمتع بأحاديثه اللاتنتهي، ونكثه الكثيرة، وقصصه التي تعود إلى عصر “عناق بن عواج “إذ كان، لي، “يرويها بالواضح لا بالمرموز، ولطالما تلذذت بكلامه الحُوشِي وتعابيره المتهتكة، الخِلْوة قطعاً من كل تكليف إلى حد أنها كانت تذكرني ب”حلقات خليفة”بسوق”شطيبة”، أو بحكايات”الطويل والقصير “ب “باب الشعبة”بمدينتي الملونة. ولما اقتنيتُ جهاز تلفاز بالألوان يعمل بنظام ” بال- سيكام”صار يزورني بانتظام في كل الأماسي لمتابعة أخبار الثامنة مساء على قناة “إ.ت.م “الوحيدة في تلك الآونة. كان مفتونا بالأخبار التي يقدمها الإعلاميان المغربيان المرحوم”محمد المؤذن”، والسيدة “قمر أيت بنمالك” ذكرها الله بكل خير..
و مع مرور الأيام صار يصطحب معه سيدة في العمر قرينته. كانت هذه السيدة وقورا تماما. غاية في الأناقة. لبقة، وفي منتهى الرزانة بالرغم من أنها لم ترتد في حياتها مدرسة لتعلم القراءة والكتابة. والغريب أنه كان يصر على أن ترافقه صديقته هاته إلى بيتي لمتابعة الأخبار، وخصيصا لمشاهدة “النشرة الجوية” التي كان يقدمها مهندس مغربي شهير مختص في الأرصاد وعلم المناخ..
كان جاري المدرس هذا يقطع صوت المهندس ذي اللكنة الشمالية الجذابة بواسطة جهاز التحكم عن بعد الذي كان يجد متعة كبيرة في الإمساك به حيث يقطع عنا صوت صاحب النشرة الجوية بخنصره الذي يزينه خاتم اهل التشيع فيبقي على الصورة لوحدها ليفتعل جدية زائدة عن الحدود، وتعالما بينا في فك رموز الخريطة الجوية الملتقطة بواسطة الميتيو-ساط. كان يتصنع التعالم والأستاذية وهو يقف امام الشاشة الصغيرة. كنت أتابع تقاسيم وجهه، ومخارج الحروف من فمه، كما أتابع عن كثب حركات يديه حين يمسك مسطرة طويلة بيده اليسرى فيتصنع صرامة فقيه مَسْيَدٍ ليقول مفسرا، وموضحا، وصديقته مُنْشَدَّة إلى حركات يديه، وإلى ركام مصطلحات الكتب المدرسية التي يحفظها عن ظهر قلب فطفق يُمَطْرِقُ مسامع صديقته تعالما وتباهيا، ولربما ترميما لاواعيا لجراح قاسية خلال مرحلته الأوديبية لتخلف اهتزازات في سمات الشخصية وندوبا نفسانية غائرة لم يضمدها بلسم الزمن ولم تمحها شساعة السنين:
“لاحظوا معايا عافاكم دابا. هنا كيف كاتشوفو في هاذ الخريطة الجوية الرياح غادا تكون شمالية-شرقية قوية إلى جنوبية-غربية باردة إلى شديدة البرودة..كنحذركم. ردوا بالكم راه كاين شي منخفض جوي قوي في طريقه إلى السواحل المغربية قادم من جزر الآصور وقد تشبع هذا المنخفض برطوبة المحيط الأطلسي، وسيتكون على إثره جليد في السهول، والهضاب الداخلية العليا يعني”الجريحة”، وستنخفض الحرارة بسبب تاثير الرياح القطبية القادمة من أعماق سيبيريا عبر أوروبا الغربية، غير الله يْحَضَّر السلامة وخْلاَص. أما في النجود العليا كما يتضح لي من الخريطة فستسقط الثلوج خصوصا في المرتفعات التي يزيد علوها عن 1500و 2000 متر. غير أن سفوح الجبال ستكون عرضة للبَرَد يعني التبروري، والبحر سيكون هائجا إلى قليل الهيجان، وارتفاع الموج سيصل إلى حدود مترين إلى ثلاثة أمتار . أما سرعة التيارات البحرية فستكون ما بين 10 و 15 بوفور وما فوق..”
كان هذا الجار-الأستاذ واثقا من شروحه المسهبة للخرائط الجوية، وللمناخ والطقس لذلك فقبل أن يخرج مغادرا بيتي كان ينصحني بتوخي الحذر من مغبة انزلاقي لما امتطي دراجتي الهوائية لأن وابل الأمطار سيكون قويا غزيرا على غير المعتاد.
و أذكر يوما سألته عن طُرُقِ وكيفيات قياس التساقطات المطرية. لم يجبني الرجل بل سارع إلى طلب”سَطْل”فارغ وضعه في سطح البيت و أمرني حازما بعدم الاقتراب منه إلى أن يأتي هو شخصيا لينظر في الأمر . وفي مساء اليوم الموالي بعد شرح ضَافٍ ومستفيض، كعادته، للخريطة الجوية لحقنا، انا وصديقته، به على السطح لمعاينة طريقته في قياس الأمطار؛ ولأجل ذلك طلب من صديقته مده ب”مِيتْرُو” أودعه لديها قبل زيارتهما المعتادة. وعمد ب”الميترو” إلى قياس ارتفاع الماء داخل السطل. كنت أتتبع حركاته عن كثب إلى أن التفت إلي متأكدا من صنيعه. استدار نحونا، سوى سلسلة ساعته اليدوية الزرقاء من نوع أوريون ORIENT، قَوَّسَ عينه اليمنى متقمصا نظرة خبير في علم المناخ فقال”: “ها نتوما بارك الله فيكم كيف كتشوفو مزيان دابا. طاحت اليوم بالسلامة..بالسلامة والعافية، من خيرات ربي نعام آسيدي شي 13 ملم والصرف ديال لَمْيَاهَات”. رفع هامته نحو السماء، وتأمل عميقا حلكة الليل فزاد كَمُهَسْتَرٍ :”تانشوف بلي الشتا غادا “تْسَبَّع “والعام غااااااادي يكون مزيان ومليح بزااااف عاد.. الصبا غادا تكون نيميرو واحد إن شاء الله.
التفت إلى صديقته بنظرة متعالية مثيلة لنظرات الأخ العقيد إلى مستجوبيه فصاح مزهوا: راه صاحبك هذا ألاَلَّة “م” خبير في المناخ، وعااااااالم من علماء الكاااااااااااارتوغرافيا وأجرك على الله..”
(●- ناصر السوسي)
